يُشكّل «عمر» (2013)، الفيلم الجديد للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، لحظة سينمائية متفرّدة بحدّ ذاتها في المشهد السينمائي الفلسطيني العربي. لحظة متفرّدة، لأنه يُساهم في تفعيل آلية اشتغال سينمائيّ فلسطيني متحرّر من سطوة التقاليد الصارمة في مقاربة الموضوع الفلسطيني، ومتفلّت من خطابية تُسيء إلى «القضية» وناسها أكثر مما تفيدهم. لحظة متفرّدة، لأنه يغوص في تمزّقات الفرد، ويتيح لهذا الفرد إمكانية قول انفعال، والتعبير عن موقف أو حالة، كجزء من بلد ومجتمع وناس، لكن أولاً وأساساً كفرد له استقلاليته التامة وسط هذه الجماعة نفسها. لحظة متفرّدة، لأنه مبني على نص سينمائي متماسك البنية الدرامية والجمالية، وعلى حوارات «عفوية» مأخوذة من واقع الحال اليومي، وعلى هذا المزيج الهادئ والمضطرب في آن واحد بين رومانسية تكاد تغيب وسط اشتعال نيران الحروب المستمرة في الداخل الفلسطيني، كما في العلاقة الصدامية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبين معنى الصداقة التي تسقط أمام هول الأنانية والخديعة، وبين كيفية العيش في ظلّ احتلال عنيف وقاس، وتحت وطأة الارتباكات الفلسطينية الداخلية.
يدفع «عمر» مخرجه هاني أبو أسعد خطوة جمالية إضافية إلى الأمام، بعد 8 أعوام على «الجنّة الآن» (2005)، الذي أراده صاحبه نوعاً من اختراق أحد المحرّمات الفلسطينية: سؤال نقدي ـ سجالي حول العمليات العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي (هل هي استشهادية أو انتحارية)، وسؤال نقدي ـ سجالي آخر حول تداعيات التعامل الأمني ـ الاستخباراتي الفلسطيني مع العدو. لكن «الجنّة الآن» (جائزة «غولدن غلوب» في فئة أفضل فيلم أجنبي في دورة العام 2006) لا يكتفي بهذا، لقدرته على تحقيق نمط سينمائي مواز لعمق المادة الدرامية، ولبراعته في السير على الحافة من دون وقوع كبير أثناء تناوله محرّمات كهذه. وها هو «عمر» يستكمل شيئاً من عملية الاختراق السينمائي نفسه، بالتساوي مع أسئلة إنسانية لا تقلّ أهمية: الصداقة والحبّ والمقاومة والاعتراف.
عمر (آدم بكري) وأمجد (سامر بشارات) وطارق (أياد حوراني)، 3 أصدقاء منذ الطفولة. عاشوا معاً، وواجهوا معاً، وخاضوا معاركهم الشخصية معاً. ربما من هنا نشأت قصة حب «سرّي» بين عمر ونادية (ليم لوباني) شقيقة طارق، وهي قصة جعلت عمر يتسلّق جدار الفصل العنصري مراراً وتكراراً للقاء حبيبته، مع ما يُشكّله هذا التسلّق من مخاطر الرصاص الإسرائيلي. شيئاً فشيئاً، يكتشف عمر أن أمجد مُغرم بدوره بنادية، التي تُكنّ حباً صافياً لعمر. هذا جانب أول يتوازى وجوانب أخرى: الرغبة في الخلاص من الجحيم اليومي وانسداد الأفق، مواجهة المحتلّ بشتى الوسائل، سؤال الصداقة ومصيرها والحبّ ومساراته، إلخ. عمر فرّان يجتهد لجمع المال من أجل الزواج، لكن عملية قتل جندي إسرائيلي يقوم بها الأصدقاء الثلاثة تضعه أمام أقسى الخيارات، بعد إلقاء القبض عليه من قِبَل الشرطة الإسرائيلية: إما التخلّي عن أحلامه بتمضية عمره كاملاً في السجن، وإما خيانة الصداقة والاعتراف بهوية القاتل الفعلي.
سؤال التعامل الأمني مع الإسرائيليين يبرز بقوّة هنا، ويفتح مجالاً أمام سؤال لا يقلّ خطورة عنه: مجرّد «توهّم» بمسألة ما يكفي للنيل من المرء وتحطيمه داخل بيئته، وربما لتصفيته أيضاً. هاني أبو أسعد مُصرّ على المسّ بمحرّمات. يرى، عبر فيلمه هذا على الأقلّ، ضرورة مناقشتها. والمناقشة هنا لا تنال من الجانب السينمائي أبداً، لأن النصّ مكتوب بمتانة واضحة، والمعالجة تخلو من كلّ ركاكة في الحوار والمونتاج والتصوير والتقاط المشاهد (خصوصاً لقطات المطاردة، أو لحظات الحب، أو لقاءات الأصدقاء وصراعاتهم، إلخ). عمر لا يرضخ للمحتلّ الإسرائيلي، كما أنه يقبل، بمرارة، «خيانة» الحبيبة له مع أمجد، المخادع الذي لم يأبه بالصداقة، والذي يجعل الخديعة والافتراء والكذب مدخلاً إلى الحصول على ما يريد. كأن الصراعات الداخلية بين الأصدقاء الثلاثة، وإن كانت خفية أحياناً، تتساوى والصراع اليومي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هذان الجانبان متوازنان في معالجة درامية مرتكزة على عملية توليف مشدودة البناء الفني البصري.
الوهم أداة تدمير، والخداع أيضاً. إنهما أسرع الطرق إلى تحطيم كل شيء. الإسرائيلي مدمِّر ومخادع هو أيضاً. لهذا، يتوغّل «عمر» في قراءة الجانبين، كمن يرسم الخطوط الفاصلة بينهما، أو المشترك الذي يؤدّي إلى مزيد من الخراب. مقاومة المحتلّ تُشبه سعي عمر إلى كشف حقيقة ما جرى داخل العلاقة الثلاثية للأصدقاء، التي أفضت إلى مقتل طارق على يديّ أمجد من دون أن يقصد هذا، وإلى زواج أمجد من نادية بتدبير مسبق منه. الإسرائيلي يريد بدوره تصفية قادة المقاومين واحداً واحداً عن طريق عمر، والقائد الميداني للمقاومة الفلسطينية يريد فهم السرّ الكامن وراء مرور شهرين اثنين على مقتل طارق قبل تسليم جثته إلى أهله. لكن عمر، الذي وجد نفسه فجأة وحيداً في عالم معقّد من المصالح والصدامات والقسوة، والذي يكتشف بالصدفة خداع أمجد وانهيار عالمه الخاص، يمضي اللحظات الأخيرة من الفيلم في عملية تصفية حسابات قاسية، وتطهّر يجعله نبيلاً في موقفه من نادية وأمجد، ومناضلاً بريئاً من تهمة الخيانة والعمالة، وإنساناً أتقن كيفية الخروج من النفق، وإن على حساب ذاته.
إذا كان النصّ السينمائي متين البنية وسلس الحوارات والمعالجة، فإن المشهدية السينمائية تتكامل في مسارها الدرامي، وتضع المتتاليات البصرية في سياق أخّاذ من السرد الحكائي الذي لا يخلو من كوميديا ساخرة أتقن أمجد تحديداً استخدامها في تعليقاته الساخرة على وضع أو حالة أو سلوك.
(]) بدءاً من هذا الأسبوع، يُعرض «عمر» في صالة سينما «متروبوليس» (مركز صوفيل، الأشرفية)
[ينشر ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين"جدلية"وجريدة ”السفير“]